What do you think?
Rate this book
268 pages
First published March 1, 1982
"لم أتصور أن الورقة والقلم يمكن أن يكونا أخطر من الطبنجة في عالم الواقع والحقيقة."
"لأنني ولدت في زمن عجيب يساق فيه الإنسان إلى السجن لأنه ولد بعقل يفكر. لأنه ولد بقلب يخفق للصدق والعدالة. لأنه يكتب الشعر أو القصة أو الرواية. لأنه نشر بحثاً علمياً أو أدبياً، أو مقالاً ينادي فيه بالحرية. أو له ميول فلسفية.
لأنني ولدت في هذا الزمن لم يكن عجيباً أن أدخل السجن. فأنا اقترفت الجرائم جميعاً... كتبت القصة والرواية والشعر. ونشرت بحوثاً علمية وأدبية، ومقالات تنادي بالحرية، ولي ميول فلسفية.
لكن الجريمة الكبرى أنني امرأة حرة في زمن لا يريدون فيه إلا الجواري والعبيد. وولدت بعقل يفكر في زمن يحاولون فيه إلغاء العقل."
منذ دخلت كلية الطب، وأنا أشعر بالاغتراب وسط هؤلاء الرجال ذوي العيون
الجاحظة والحقائب المنتفخة والجفون المتورّمة والعيون الحمراء، يحفظون المحاضرات
طول الليل عن ظهر قلب، ويدوسون على أقدام غيرهم؛ ليحجزوا الصفوف الأولى، يلهثون
جريًا من المدرج إلى المشرحة، ويمسكون المشرط في يد، وفي اليد الأخرى يمسكون
«ساندوتش». يختصرون وقت الطعام ووقت النوم، ولا هم لهم إلا الحفظ، وليس أمامهم
إلا شبح الامتحان وما إن ينتهي الامتحان حتى تتسرب المعلومات المحفوظة من الذاكرة
و��صبحون أطباء في الجامعة وفي وزارة الصحة وفي وزارة الداخلية وفي السجون، وفي
العيادات الخاصة. ينظرون إلى جيب المريض قبل أن يشخصوا المرض، يضعون الجنيه
فوق الجنيه في درج المكتب داخل العيادة، ثم يموتون بالسكتة القلبية، ولا أحد يذكرهم،
لا يتركون وراءهم شيئًا ثمينًا، ويرث عنهم أولادهم أو زوجاتهم بعض العمارات أو بعض
الدكاكين، أو مساحات كبيرة من الأرض والطين، لكن لا أحد يذكرهم، حتى أولادهم أو
زوجاتهم ينشغلون بالميراث الكبير أو بمشروع الزواج الجديد.
منذ أصبحت طبيبة، وأنا أشعر بالاغتراب وسط هذا النوع من الأطباء كأصحاب
الدكاكين، يبيعون الصحة والعلاج لمرضى لا يملكون ثمن الطعام، يرشق الواحد منهم
السيجار الأسود الضخم بين شفتيه ويتكلم من طرف أنفه كإله، مع أن تشخيصه في
بعض الأحيان خطأ، قد يموت المريض وقد ينقذ حسب الحالة، وسواء مات أو عاش
فالثمن لا بد أن يُدفع مقدمًا أو مؤخرًا.
أي مهنة هذه؟ وهل يمكن أن تكون هذه المهمة هي مهنتي؟! هل يمكن أن أضع
الجنيه فوق الجنيه في درج مكتبي داخل العيادة ثم أموت بالسكتة القلبية، ولا أخلف
ورائي شيئًا ثمينًا ؟ هل أعيش وأموت ولا أترك لأولادي والناس من بعدي إلا رقعة كبيرة
من الطين يتنازعون ملكيتها ؟!
منذ الطفولة وأنا أريد أن أعيش ثم أموت وأخلف ورائي شيئًا ثمينا، ما هو ؟!
في السجن تظهر حقيقة الإنسان يقف عاريًا أمام نفسه وأما غيره تسقط الأقنعة
والشعارات في السجن ينكشف المعدن الحقيقى للشخصية، خاصةً في الأزمات.
كأنما كنت أضرب بالقلم رأسًا أسود فاسدًا، أراد أن يغتصب حريتي وحياتي، أن
يشوه نفسي الحقيقية أن يفرض عليَّ أن أبيع عقلي، وأقول: نعم، حين أريد أن أقول لا.
من حقي أن أعرف إلى أين يحملونني، سواء إلى الجنة أو الجحيم، لا يهم إلى أين
أذهب، ولكن الأهم أن أعرف أنا إنسانة ولست «طردًا» يُحمل من مكان إلى مكان المعرفة
حق لي، وليأخذوني بعد ذلك إلى حيث يشاءون.
الطريق المجهول يبدو مخيفا ومفزعًا، وإن كان في نهايته الفردوس
تذكرت صوت زميلي الأديب الكبير: لست إلا موظفا الأديب موظف، المفكر موظف
الفيلسوف موظف، لذلك ليس عندنا أدباء أو مفكرون أو فلاسفة» ما الفرق بين ضابط
المباحث الموظف والأديب الموظف ؟ كلاهما ينفذ الأوامر، كلاهما لا يريد أن يفقد راتبه
الشهري، أو وظيفته.
ظلت عينا صلاح بيه مرفوعتين وهو صامت، ثم هبطت عيناه بحركة تنم عن خيبة
الأمل. ربما لم تهبط إليه أية تعليمات، وأصبح عليه أن يتصرف وحده، أو لعل أفكارًا
كثيرة متضاربة دارت في رأسه، ولم يعرف أيغضب أم لا يغضب. إن أمور السياسة على
كف عفريت. لا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحدث غدًا أو بعد ساعة واحدة. لم تعد
هناك ضمانات لبقاء أي واحدٍ في مقعده أي حاكم في أكبر دولة يمكن أن يختفي بطلقة
رصاص واحدة. أي حكومة ممكن أن تطير في غمضة عين بانقلاب في الجيش، أو ثورة
بين الشعب. وفي يومٍ وليلة يصبح من في الحكم في السجن، ومن في السجن في الحكم،
وسبحان الباقي على حال، وأطرق برأسه كأنه يفكر.
إن أجهزة الدولة حين تغضب على كاتب تستطيع أن تمنعه من النشر، وتخنق صوته
فلا يصل إلى أحد لا يمكن أن يتربَّع كاتب على قمة الأدب، إلا إذا رَضِيَتْ عنه السلطة.
كل شيء عندنا في يد الدولة، وتحت سيطرتها المباشرة أو غير المباشرة، بالقانون
الواضح أو بالقانون الخفي، بالعُرف أو بالخوف المزمن القديم من السلطة