Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

فخ الذكاء: لماذا يرتكب الاذكياء اخطاء غبية؟
فخ الذكاء: لماذا يرتكب الاذكياء اخطاء غبية؟
فخ الذكاء: لماذا يرتكب الاذكياء اخطاء غبية؟
Ebook701 pages5 hours

فخ الذكاء: لماذا يرتكب الاذكياء اخطاء غبية؟

Rating: 0 out of 5 stars

()

Read preview

About this ebook

عند تأليف هذا الكتاب، تقيّد المؤلف بأسئلة محددة: لماذا يتصرف الأذكياء بغباء؟ ما المهارات والنزعات التي تنقصهم ويمكن أن تفسر هذه الأخطاء؟ وكيف يمكننا اكتساب هذه السمات لحماية أنفسنا من الوقوع في هذه الأخطاء؟ ودرس هذه الأسئلة في كل مستوى من المجتمع، بدءًا من الأفراد وحتى الأخطاء التي تستشري في كبرى المنظمات.
يبدأ الجزء الأول من الكتاب بتعريف المشكلة؛ إذ يستكشف العيوب التي تشوب فهمنا للذكاء، وكيف يمكن لألمع العقول أن تخفق (بدءًا من إيمان آرثر كونان دويل المتشدد بالجِنيات وصولًا إلى تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي المشوب بالخلل في تفجيرات مدريد 2004)، ولماذا لا تُزيد المعرفة والخبرة هذه الأخطاء سوى تفاقمًا.
أما الجزء الثاني، فيقدّم الحلول لهذه المشكلات عن طريق استعراض الفرع المعرفي الجديد المُسمَى «الحكمة القائمة على الأدلة»، والذي يتناول النزعات الفكرية والقدرات المعرفية الأخرى التي تلعب دورًا محوريًّا في الاستدلال السليم، ويقدم أيضًا بعض الأساليب العملية لاكتساب هذه النزعات والقدرات. وأثناء ذلك، سوف نستكشف سبب فشل حدسنا في كثير من الأحيان وكيف يمكننا تصحيح هذه الأخطاء لصقل هذا الحدس. علاوةً على ذلك، يتناول المؤلف استراتيجيات لتجنب المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة لكي نكون قادرين على التأكد من أن خياراتنا قائمة على أدلة قوية.
ننتقل بعد ذلك في الجزء الثالث إلى علم التعلم والذاكرة. يواجه الأذكياء أحيانًا صعوبات في التعلم رغم مقدرتهم العقلية؛ فهم يصلون إلى نوع من الثبات في قدراتهم لا يعبِّر عن إمكاناتهم. ويمكن أن تساعد الحكمة القائمة على الأدلة في الخروج من هذه الحلقة المفرغة بتقديمها ثلاث قواعد للتعلم العميق. وإلى جانب مساعدتنا في تحقيق أهدافنا الشخصية، تفسر هذه الأبحاث الحديثة سبب نجاح أنظمة التعليم في شرق آسيا نجاحًا كبيرًا في تطبيق هذه المبادئ، وتوضح الدروس التي يمكن لنظام التعليم المدرسي في الغرب تعلمها من هذه الأنظمة ليُخرِّج أفراد أقدّر على التعلم وأكثر حكمة في التفكير.
Languageالعربية
Release dateSep 1, 2024
ISBN9789777653695
فخ الذكاء: لماذا يرتكب الاذكياء اخطاء غبية؟

Related to فخ الذكاء

Related ebooks

Reviews for فخ الذكاء

Rating: 0 out of 5 stars
0 ratings

0 ratings0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    فخ الذكاء - ديفيد روبسون

    %d9%81%d8%ae%20%20%d8%a7%d9%84%d8%b0%d9%83%d8%a7%d8%a1.jpg3.jpg4.jpg5.jpg6.jpg

    إلى والدَي، وروبرت

    مقدمة

    غامِر بخوض غياهب الإنترنت، وقد تصادف رجلًا يُدعَى كاري. وهو رجل، إذا صدق قولًا، قد تُغيِّر أفكاره الفريدة النظام العالمي(1).

    يظن كاري، مثلًا، أن كائنًا فضائيًّا اختطفه بالقرب من نهر نافارو في ولاية كاليفورنيا بعد مقابلته كائنًا غريبًا اتخذ شكل راكون متوهج له «عينان سوداوان مراوغتان». ولا يتذكر في الواقع ما حدث «بعد أن ألقى عليه ذلك اللعين الصغير التحية بلطف ودماثة»، فبقية ما حدث تلك الليلة مُحي من ذاكرته، لكن ثمة اعتقادًا راسخًا لديه بأن ما حدث له علاقة بكائنات فضائية. فكتب على نحو مُلغِز: «يوجد الكثير من الألغاز في الوادي».

    كاري مناصر مخلص أيضًا للتنجيم. ويعبر عن ذلك في غضب قائلًا: «معظم [العلماء] لديهم انطباع خاطئ بأن التنجيم ليس علمًا ولا موضوعًا مناسبًا للدراسة الجدية. إنهم مخطئون تمامًا». فهو يعتقد أن التنجيم هو الحل لتحسين علاج الصحة النفسية وكل مَن يعترض على ذلك «يفكر بمؤخرته». وإلى جانب هذه الآراء بشأن الكائنات الفضائية والأبراج الفلكية، يعتقد كاري أيضًا أن بإمكان الأشخاص السفر عبر أثير المستوى النجمي.

    تأخذ الأمور منحى أكثر قتامةً عندما يتحدث كاري عن السياسة. فهو يزعم أن «بعض الحقائق الكبرى التي قبلها الناخبون تستند إلى أساس علمي ضعيف أو منعدم». يشمل ذلك «الاعتقاد بأن الإيدز يسببه فيروس نقص المناعة البشرية» و«الاعتقاد بأن إطلاق مُركَّبات الكلوروفلوروكربون في الغلاف الجوي أدى إلى تكوُّن ثقب في طبقة الأوزون».

    غني عن القول أن هذه الأفكار يقبلها العلماء في جميع أنحاء العالم تقريبًا، لكن كاري يخبر قراءه بأن العلماء يسعون إلى المال فحسب. ويناشد الناس قائلًا: «أغلِقوا التلفاز، واقرأوا كتب العلوم التي درستموها في المرحلة الابتدائية. عليكم أن تعرفوا ما يدبرونه».

    أتمنى ألَّا أكون بحاجة إلى ذكر أن كاري مخطئ.

    تعج شبكة الإنترنت بأشخاص يحملون آراء لا أساس لها من الصحة بالطبع، لكننا لا نتوقع أن يُمثِّل المنجمون ومنكرو الإيدز قمة الإنجاز الفكري.

    بيد أن اسم كاري بالكامل هو كاري موليس، ولذا فهو أبعد ما يكون عن أصحاب نظريات المؤامرة غير المطلعين الذين قد ترد صورتهم النمطية إلى ذهنك، فهو عالم حائز على جائزة نوبل، ما يضعه على قدم المساواة مع ماري كوري، وألبرت أينشتاين، وفرانسيس كريك.

    فاز موليس بالجائزة لاختراعه تفاعل البوليمراز المتسلسل، وهو أداة تسمح للعلماء باستنساخ الحمض النووي الريبوزي منزوع الأكسجين (DNA) بكميات كبيرة. خطرت الفكرة له على ما يبدو في لحظة إلهام وهو على الطريق في مقاطعة ميندوسينو بولاية كاليفورنيا، واعتمد الكثير من أعظم الإنجازات التي تحققت على مدار العقود القليلة الماضية -بما في ذلك مشروع الجينوم البشري- على تلك اللحظة من العبقرية الخالصة. وكان هذا الاكتشاف من الأهمية ما جعل بعض العلماء يقسمون الأبحاث في مجال الأحياء إلى حقبتين: ما قبل موليس وما بعده.

    ما من شك في أن موليس، الذي يحمل شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في بيركلي، فائق الذكاء، فاختراعه لا يمكن أن يتمخض عنه سوى عمر كُرِّس لفهم العمليات شديدة التعقيد التي تحدث داخل خلايانا.

    لكن هل يمكن للعبقرية ذاتها التي سمحت لموليس بالتوصل إلى هذا الاكتشاف المذهل أن تفسر إيمانه بالكائنات الفضائية وإنكاره للإيدز؟ هل يمكن أن يكون فكره الفذ قد جعله أيضًا في غاية الغباء؟

    * * *

    يتناول هذا الكتاب لماذا يتصرف الأذكياء بغباء، بل ولماذا يكونون أيضًا أكثر عرضة لارتكاب الأخطاء مقارنةً بالأشخاص العاديين. يتعلق الكتاب كذلك بالاستراتيجيات التي يمكننا جميعًا اتباعها لتجنب مثل هذه الأخطاء؛ أي الدروس التي من شأنها مساعدة أي شخص في التفكير على نحو أكثر حكمة وعقلانية في عالم ما بعد الحقيقة.

    لا حاجة إلى أن تكون حائزًا على جائزة نوبل لينطبق عليك ذلك. فرغم أننا سنستعرض قصصًا لأشخاص من أمثال موليس، وبول فرامتون، وهو فيزيائي فذٌّ تعرض لخدعةٍ حمل على إثرها كيلوجرامين من الكوكايين عبر الحدود الأرجنتينية، وآرثر كونان دويل، المؤلف الشهير الذي انطلت عليه حيلة حاكتها مراهقتان، سنتناول أيضًا كيف يمكن أن تُضلل أخطاء التفكير نفسها أي شخص ذكاؤه أعلى من المتوسط.

    لقد اعتقدت، شأني شأن معظم الناس، أن الذكاء مرادف للتفكير الصائب. ومنذ مطلع القرن العشرين، قاس علماء النفس مجموعة صغيرة نسبيًّا من المهارات المجردة -تذكُّر الحقائق، والاستدلال بالقياس، والمفردات- اعتقادًا منهم بأن هذه المهارات تعكس ذكاءً عامًّا فطريًّا تقوم عليه كل أنواع التعلم، والإبداع، وحل المشكلات، وصنع القرارات. وبناءً عليه، فإن الهدف من التعليم هو الاعتماد على هذه المقدرة العقلية «الطبيعية»، وتزويدنا بمزيد من المعرفة المتخصصة في الآداب، والإنسانيات، والعلوم، التي يستلزمها أيضًا العديد من المهن. وكلما كنت أذكى -وفقًا لهذه المعايير، كان حكمك أصوب.

    لكن عندما بدأت العمل في الصحافة العلمية وتخصصت في علمي النفس والأعصاب، لاحظت أن أحدث الأبحاث قد كشفت عن بعض المشكلات الخطيرة في هذه الافتراضات. فالذكاء العام والتعليم الأكاديمي لا يفشلان فحسب في حمايتنا من العديد من الأخطاء المعرفية، وإنما قد يكون الأذكياء أيضًا أكثر عرضةً لأشكال معينة من التفكير الأحمق.

    فالأذكياء والمثقفون أقل ميلًا، مثلًا، للتعلم من أخطائهم أو تلقي النصح من الآخرين. وعندما يخطئون بالفعل، يكونون أقدر على بناء حجج متقنة لتبرير تفكيرهم، ما يعني أنهم يصبحون أكثر تشددًا في آرائهم. والأسوأ من ذلك أن «نقطة التحيز العمياء» لديهم أكبر من الآخرين، بمعنى أنهم أقل قدرة على إدراك جوانب الخلل في المنطق الذي يستندون إليه.

    أثارت هذه النتائج اهتمامي، فبدأت التوسع في البحث. أوضح علماء الإدارة، على سبيل المثال، الطرق التي يمكن أن تُزيد بها الثقافات السيئة للمؤسسات -التي تهدف إلى زيادة الإنتاجية- من صنع القرارات غير العقلانية، سواء في الفرق الرياضية أو الأعمال التجارية أو المنظمات الحكومية. ونتيجة لذلك، يمكن أن تكون لديك فرق كاملة مكوَّنة من أشخاص ذوي ذكاء فائق، ولكنهم يتخذون قرارات في غاية الغباء.

    وعواقب ذلك وخيمة. فعلى مستوى الأفراد، يمكن أن تؤثر هذه الأخطاء على صحتنا، وسلامتنا، ونجاحنا المهني. وفي المحاكم، تؤدي هذه الأخطاء إلى إساءات خطيرة في تطبيق العدالة. وفي المستشفيات، ربما تكون هذه الأخطاء السبب في أن 15 بالمائة من التشخيصات تكون خاطئة، وما يسفر عن ذلك من وفيات تفوق عدد الوفيات الناجمة عن أمراض مثل سرطان الثدي. وفي الأعمال التجارية، تؤدي هذه الأخطاء إلى الإفلاس والانهيار(2).

    لا يمكن إرجاع أغلب هذه الأخطاء إلى نقص المعرفة أو الخبرة، وإنما يبدو أنها تنشأ من العادات الذهنية المعيبة التي تصاحب تحديدًا المستويات الأعلى من الذكاء والتعليم والخبرة المهنية. ويمكن أن تؤدي مثل هذه الأخطاء إلى تحطم سفن الفضاء، وانهيار أسواق الأوراق المالية، وتجاهل قادة العالم لتهديدات عالمية مثل تغير المناخ.

    وتوصلت في بحثي إلى أن ثمة بعض العمليات المشتركة التي تكمن وراء كل هذه الظواهر، رغم أنها قد تبدو غير مرتبطة بعضها ببعض. وهذا نمط سأشير إليه بمصطلح «فخ الذكاء»(3).

    لعل أفضل تشبيه يمكن استخدامه هنا هو السيارة، فالمحرك الأسرع يمكن أن يوصلك إلى وجهتك على نحو أسرع إذا عرفت كيف تستخدمه استخدامًا صحيحًا. ولكن زيادة القدرة الحصانية فحسب لا يضمن وصولك إلى وجهتك سالمًا. فمن دون المعرفة والمعدات السليمة، من المكابح، وعجلة القيادة، وعدَّاد السرعة، والبوصلة، والخريطة الجيدة، قد يجعلك المحرك السريع تقود سيارتك في دوائر، أو نحو السيارات القادمة أمامك. وكلما كان محركك أسرع، زادت خطورتك.

    على النحو نفسه بالضبط، يمكن أن يعينك الذكاء على معرفة الحقائق وتذكرها ومعالجة المعلومات المعقدة بسرعة، ولكنك بحاجة أيضًا إلى الضوابط والتوازنات الضرورية لاستخدام هذه القدرة الحصانية استخدامًا صحيحًا. ومن دون هذه الضوابط والتوازنات، يمكن في الواقع أن تصبح أكثر تحيزًا في تفكيرك كلما زاد ذكاؤك.

    لكن لحسن الحظ، إلى جانب إيضاح مفهوم فخ الذكاء، بدأت أبحاث علم النفس الحديثة في تعيين صفات عقلية أخرى يمكن أن تبقينا على المسار الصحيح. فكِّر، مثلًا، في السؤال التالي الذي يبدو بسيطًا على نحو خادع:

    ينظر جاك إلى آن، ولكن آن تنظر إلى جورج. جاك متزوج، ولكن جورج ليس متزوجًا. هل ينظر شخص متزوج إلى شخص غير متزوج؟

    نعم، أم لا، أم لا يمكن التحديد؟

    الجواب الصحيح «نعم»، ولكن الغالبية العظمى من الناس يجيبون «لا يمكن التحديد».

    لا تشعر بالإحباط إذا لم تعرف الإجابة للوهلة الأولى. فالكثير من طلبة جامعات «رابطة اللبلاب» يخطئون في الإجابة، وعندما نشرتُ هذا الاختبار في مجلة «نيو ساينتست»، تلقيت عددًا غير مسبوق من الخطابات يزعم مرسلوها أن الجواب خاطئ. (إذا لم تكن تدرك المنطق وراء الجواب، فيمكنك رسم مخطط أو الاطلاع على الحل الموضح في نهاية هذا الكتاب).

    يقيس هذا الاختبار خاصية تُعرَف بالتأمل المعرفي، وهي النزعة إلى التشكُّك في افتراضاتنا وحدسنا، ولذلك فإن مَن يحصلون على درجات سيئة في هذا الاختبار أكثر تأثرًا بنظريات المؤامرة الوهمية، والمعلومات المغلوطة، والأخبار الزائفة. (سوف نتناول ذلك بمزيد من التفصيل في الفصل السادس).

    إلى جانب التأمل المعرفي، من السمات المهمة الأخرى التي يمكن أن تقينا من فخ الذكاء التواضع الفكري، والتفكير المنفتح النشط، والفضول، والوعي العاطفي المصقول، وعقلية النمو. فهذه السمات مجتمعةً تُبقي عقولنا على المسار الصحيح وتحمي تفكيرنا من الانحراف نحو الهاوية.

    أدت هذه الأبحاث إلى ميلاد فرع معرفي جديد، وهو دراسة «الحكمة القائمة على الأدلة». وبعد أن كان علماء آخرون ينظرون إليه بعين الريبة، ازدهر هذا المجال في السنوات الأخيرة، مع ظهور اختبارات استدلال جديدة تتنبأ بصنع القرار في الحياة الواقعية على نحو أفضل من القياسات التقليدية للذكاء العام. ونشهد أيضًا حاليًّا إنشاء مؤسسات جديدة لدعم هذه الأبحاث، مثل «مركز الحكمة العملية» في جامعة شيكاغو الذي اُفتتِح في يونيو 2016.

    ورغم أنه لا يُقاس أيٌّ من هذه السمات في الاختبارات الأكاديمية القياسية، فليس عليك التضحية بأيٍّ من مزايا التمتع بذكاء عام مرتفع لتُنمي لديك أيًّا من هذه الأنماط الأخرى للتفكير واستراتيجيات الاستدلال، فهي تساعدك فحسب على استخدام ذكائك على نحو أكثر حكمةً. وعلى عكس الذكاء، يمكن التدرب عليها. فمهما كان معدل ذكائك، يمكنك تعلم التفكير على نحو أكثر حكمةً.

    * * *

    لهذا العلم الحديث أصل فلسفي قوي، فيمكن العثور على مناقشة مبكرة حول فخ الذكاء في محاكمة سقراط عام 399 قبل الميلاد.

    وفقًا لما ذكره أفلاطون، ادعى مَن وجَّهوا التُّهم إلى سقراط أنه كان يُفسد شباب أثينا بأفكار «آثمة» شريرة. لكن سقراط أنكر التُّهم الموجهة إليه، وشرح السبب وراء اشتهاره بالحكمة -والغيرة وراء الاتهامات الموجهة إليه.

    بدأ الأمر، على حد قول سقراط، عندما أعلنت عرَّافة دلفي أنه ما من أحد في أثينا أكثر حكمة منه. تساءل حينها سقراط: «تُرى ماذا يقصد الرب بذلك؟ إنه لغز: ما الذي يمكن أن يعنيه؟ فليس لديَّ علم بأنني حكيم بأي شكل من الأشكال، كبيرًا كان أم صغيرًا».

    وكان حلُّ سقراط لهذه المعضلة هو التجول في المدينة، والبحث عن الساسة والشعراء والحرفيين الأعلى شأنًا لإثبات أن العرَّافة مخطئة -ولكنه في كل مرة أُصيب بخيبة أمل. «فنظرًا لأنهم كانوا ضليعين في ممارسة مهارتهم، زعم كلٌّ منهم أنه الأكثر حكمةً بشأن أمور أخرى أيضًا؛ أي أنهم الأعلى شأنًا في تلك الأمور -وبدا لي أن هذا الخطأ من جانبهم يحجب الحكمة التي يملكونها بالفعل…».

    أضاف سقراط: «بدا لي أن مَن يحظون بأفضل سمعة هم تحديدًا الأكثر ضعفًا، بينما الآخرون الذين من المفترض أنهم أقل منهم شأنًا كانوا أكثر موهبةً فيما يتعلق بالحس السليم».

    وكان ما استنتجه سقراط نوعًا من المفارقة، فهو حكيم لأنه أدرك حدود معرفته. لكن هيئة المحكمة قضت بإدانته على أي حال، وحُكِم عليه بالموت(4).

    أوجه التشابه بين هذه القصة والأبحاث العلمية الحديثة مذهلة. فالساسة والشعراء والحرفيون في عصر سقراط يحل محلهم المهندسون والمصرفيون والأطباء في عصرنا الحالي، ومحاكمته تُعبِّر على نحو يكاد يكون مثاليًّا عن النقاط العمياء التي يكتشفها علماء النفس حاليًّا. (ومثل موجهي التهم إلى سقراط، لا يحب الكثير من الخبراء في العصر الحالي الكشف عن عيوبهم).

    لكن رغم ما ينم عنه حديث سقراط من بُعد نظر، فإنه لا يمثل النتائج الحديثة على النحو الأمثل. فلا ينكر أيٌّ من الباحثين أن الذكاء والتعليم ضروريان للتفكير الصائب. ولكن المشكلة تكمن في أننا لا نستخدم هذه المقدرة العقلية في كثير من الأحيان استخدامًا صحيحًا.

    لهذا السبب، يُعَد فِكر رينيه ديكارت الأقرب إلى الفهم المعاصر لفخ الذكاء. فقد ذكر في كتابه «مقال عن المنهج» في عام 1637: «ليس كافيًا أن تملك عقلًا سليمًا، وإنما الأهم هو استخدامه على نحو صحيح». وأضاف: «إن أعظم العقول قادرة على أكبر الرذائل وكذلك على أعظم الفضائل، ومَن يتقدمون ولكن بخطى بطيئة جدًّا يمكن أن يحققوا المزيد إذا سلكوا دائمًا الطريق القويم، على عكس من هم في عجلة من أمرهم ويحيدون عن هذا الطريق»(5).

    يسمح لنا العلم الحديث بالانتقال إلى ما هو أبعد من هذه التأملات الفلسفية من خلال تجارب مصممة جيدًا، نتوصل من خلالها إلى الأسباب الدقيقة وراء كَوْن الذكاء نعمة ونقمة في الوقت نفسه، والطرق المحددة لتجنب هذه الفخاخ.

    * * *

    قبل أن نخطو أولى خطواتنا في هذه الرحلة، أريد أن أنوِّه إلى أن هناك الكثير من الأبحاث العلمية الممتازة حول موضوع الذكاء لا مجال لذكرها في هذا الكتاب. على سبيل المثال، أكملت أنجيلا دوكورث في جامعة بنسلفانيا عملًا مبتكرًا عن مفهوم «العزم»، الذي تُعرِّفه دوكورث بأنه «مثابرتنا وشغفنا لتحقيق الأهداف طويلة المدى»، وأثبتت أكثر من مرة أن قياساتها للعزم يمكن أن تتنبأ غالبًا بالإنجاز على نحو أفضل من معدل الذكاء. وهذه نظرية مهمة للغاية، لكن ليس من الواضح ما إذا كان بإمكانها التغلب على التحيزات التي تتفاقم على ما يبدو مع الذكاء، كما أنها لا تندرج تحت المظلة العامة للحكمة القائمة على الأدلة التي تدور حولها مناقشتي في الغالب.

    عند تأليفي هذا الكتاب، تقيَّدتُ بثلاثة أسئلة محددة: لماذا يتصرف الأذكياء بغباء؟ ما المهارات والنزعات التي تنقصهم ويمكن أن تفسر هذه الأخطاء؟ وكيف يمكننا اكتساب هذه السمات لحماية أنفسنا من الوقوع في هذه الأخطاء؟ ودرستُ هذه الأسئلة في كل مستوى من المجتمع، بدءًا من الأفراد وحتى الأخطاء التي تستشري في كبرى المنظمات.

    يبدأ الجزء الأول من الكتاب بتعريف المشكلة، إذ يستكشف العيوب التي تشوب فهمنا للذكاء، وكيف يمكن لألمع العقول أن تخفق (بدءًا من إيمان آرثر كونان دويل المتشدد بالجِنيات وصولًا إلى تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي المشوب بالخلل في تفجيرات مدريد 2004)، ولماذا لا تُزيد المعرفة والخبرة هذه الأخطاء سوى تفاقم.

    أما الجزء الثاني، فيقدِّم الحلول لهذه المشكلات عن طريق استعراض الفرع المعرفي الجديد المُسمَّى «الحكمة القائمة على الأدلة»، والذي يتناول النزعات الفكرية والقدرات المعرفية الأخرى التي تلعب دورًا محوريًّا في الاستدلال السليم، ويقدم أيضًا بعض الأساليب العملية لاكتساب هذه النزعات والقدرات. وفي أثناء ذلك، سوف نستكشف سبب فشل حدسنا في كثير من الأحيان وكيف يمكننا تصحيح هذه الأخطاء لصقل هذا الحدس. علاوةً على ذلك، سنتناول استراتيجيات لتجنب المعلومات المغلوطة والأخبار الزائفة، لكي نكون قادرين على التأكد من أن خياراتنا قائمة على أدلة قوية، لا على التفكير الرغبوي.

    ننتقل بعد ذلك في الجزء الثالث إلى علم التعلم والذاكرة. يواجه الأذكياء أحيانًا صعوبات في التعلم رغم مقدرتهم العقلية، فهم يصلون إلى نوع من الثبات في قدراتهم لا يعبِّر عن إمكاناتهم. ويمكن أن تساعد الحكمة القائمة على الأدلة في الخروج من هذه الحلقة المفرغة بتقديمها ثلاث قواعد للتعلم العميق. وإلى جانب مساعدتنا في تحقيق أهدافنا الشخصية، تفسر هذه الأبحاث الحديثة سبب نجاح أنظمة التعليم في شرق آسيا نجاحًا كبيرًا في تطبيق هذه المبادئ، وتُوضِّح الدروس التي يمكن لنظام التعليم المدرسي في الغرب تعلُّمها من هذه الأنظمة ليُخرِّج أفرادًا أقدر على التعلم وأكثر حكمة في التفكير.

    وأخيرًا، نخطو إلى الوراء قليلًا في الجزء الرابع لنلقي نظرة أشمل نتجاوز بها حدود الأفراد لنستكشف أسباب تصرف الجماعات الموهوبة على نحو غبي، بدءًا من إخفاقات منتخب إنجلترا لكرة القدم وصولًا إلى أزمات المؤسسات الكبرى مثل «بي بي»، و«نوكيا»، و«ناسا».

    من المقولات المنسوبة إلى عالم النفس العظيم ويليام جيمس الذي عاش في القرن التاسع عشر: «يعتقد الكثير من الناس أنهم يفكرون بينما هم في الواقع يعيدون فقط ترتيب تحيُّزاتهم». والكتاب الذي بين يديك موجه لأي شخص يريد مثلي تجنُّب هذا الخطأ، فهو كُتيب تعليمات يوضح كيفية استخدام علم وفن الحكمة.

    * * *

    الجزء الأول

    عيوب الذكاء:

    كيف يمكن لمعدل الذكاء العالي، والتعليم، والخبرة، شحذ الغباء؟

    الفصل الأول

    بزوغ نجم «أذكياء تيرمان»

    (*) وأفوله:

    ما يعنيه الذكاء وما لا يعنيه

    (*) يشير مصطلح «أذكياء تيرمان» إلى مجموعة الأطفال الذين أجرى عليهم تيرمان دراسته، وقد أطلقوا على أنفسهم اسم Termites (بمعنى «النمل الأبيض») نسبةً إلى اسم تيرمان بالإنجليزية Terman. (المترجم)

    بينما كان الأطفال في دراسة لويس تيرمان يجلسون في توتر لحلِّ الاختبارات التي خضعوا لها، ما كانوا ليتخيلوا أن نتائجهم في تلك الاختبارات ستغيِّر حياتهم -بل وستغيِّر تاريخ العالم- إلى الأبد(**). فكل طفل من أولئك الأطفال سيصير يُعرَّف وفقًا لإجاباته سواء بالخير أو الشر، كلٌّ بطريقته الخاصة، وستُبدِّل مسيرته في الحياة فهمنا للعقل البشري إلى الأبد.

    (**) قصص الأطفال الأربعة المذكورة فيما يلي موضحة بمزيد من التفصيل، إلى جانب قصص حياة «أذكياء تيرمان» الآخرين، في كتاب جويل شوركين (1992) الذي يحمل العنوان Terman’s Kids: The Groundbreaking Study of How the Gifted Grow Up (أطفال تيرمان: الدراسة الرائدة لما يؤول إليه حال النوابغ عندما يكبرون)، بوسطن، ماساتشوستس: دار نشر ليتل، براون.

    جاءت في مقدمة أولئك الأطفال من حيث معدل الذكاء سارا آن، وهي طفلة في السادسة من العمر فصلت فلجة بين أسنانها الأمامية وعلت عينيها نظارة سميكة العدسات. أنهت سارا إجابتها عن الاختبار على عجل، وتركت عرضًا قطعة حلوى بين الورق -ربما كرشوة صغيرة للمُمتحِن. وعندما سألها العالِم الذي يُجري الدراسة عما إذا كانت «الجِنيات» هي مَن تركت الحلوى بين الورق، ضحكت سارا وشرحت برقة ما حدث قائلةً: «أعطتني فتاة صغيرة قطعتين من الحلوى، لكنني أعتقد أن تناولي كلتيهما سيضر هضمي، فقد تعافيت لتوي من الإنفلونزا». بلغ معدل ذكاء سارا 192، أحد أعلى معدلات الذكاء على الإطلاق(6).

    تمتعت طفلة أخرى بالمعدل الفائق نفسه من الذكاء الذي حظيت به سارا، وهي بياتريس، فتاة صغيرة سابقة لسنها بدأت المشي والتحدث في سن السبعة أشهر. وعند بلوغها العاشرة، كانت قد قرأت 1400 كتاب، وبدت قصائدها على درجة عالية من النضج دفعت صحيفة محلية في سان فرانسيسكو إلى ادعاء أنها «خدعت فصلًا للغة الإنجليزية في ستانفورد» صدَّق فيه الطلبة أن الشاعر تنيسون هو مَن كتب تلك القصائد. بلغ معدل ذكاء بياتريس 192، مثل سارا آن(7).

    جاءت بعد ذلك شيلي سميث ابنة الثمانية أعوام، وهي «طفلة جذابة أحبها الجميع» وبدا وجهها مشرقًا بمرح مكبوت(8).كان هناك أيضًا جيس أوبنهايمر، وهو «طفل متعجرف ومغرور» عانى من صعوبة في التواصل مع الآخرين وافتقر إلى حس الدعابة(9).بلغ معدل ذكاء هذين الطفلين 140 تقريبًا، وهو ما كان كافيًا بالكاد للانضمام إلى مجموعة تيرمان، وإن ظل أعلى من المتوسط بكثير. وقد قُدِّر لشيلي وجيس بالفعل تحقيق إنجازات عظيمة في حياتهما.

    حتى تلك المرحلة، كان اختبار معدل الذكاء -الذي كان ابتكارًا جديدًا نسبيًّا- يُستخدَم في الغالب للتعرف على الأشخاص الذين يعانون من صعوبات في التعلم. لكن تيرمان آمن إيمانًا راسخًا بأن تلك السمات المجردة والدراسية القليلة التي يقيسها الاختبار -مثل تذكُّر الحقائق، والمفردات، ومهارات الاستدلال المكاني- تمثِّل «ذكاء عامًّا» فطريًّا تقوم عليه كل قدرات الإنسان الفكرية. فبغض النظر عن خلفيتك أو تعليمك، تمثِّل هذه السمات الفطرية في الغالب مقدرة عقلية طبيعية من شأنها تحديد مدى سهولة تعلمك، وفهمك للمفاهيم المعقدة، وحلك للمشكلات.

    صرَّح تيرمان آنذاك(10) بأنه «ما من شيء أهم من معدل ذكاء الإنسان، فمن بين نسبة الخمسة والعشرين بالمائة من الأشخاص الأكثر ذكاءً، وبالأخص نسبة الخمسة بالمائة، ينبغي علينا إعداد القادة الذين من شأنهم دفع عجلة العلم والفن والحكومة والتعليم والرفاه الاجتماعي إلى الأمام بوجه عام».

    بتتبع مسار حياة أولئك الأطفال على مدار العقود التالية، عقد تيرمان آماله على أن تثبت سارا آن وبياتريس وجيس وشيلي وغيرهم من أفراد مجموعة «أذكياء تيرمان» وجهة نظره، إذ تنبأ بنجاحهم في المدرسة والجامعة، والحياة المهنية والدخل المادي، والصحة والسلامة، بل إنه اعتقد أيضًا أنه يمكن التنبؤ بطابعهم الأخلاقي بناءً على معدل ذكائهم.

    وضعت نتائج دراسات تيرمان حجر الأساس لاستخدام الاختبارات الموحدة إلى الأبد في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من أن الكثير من المدارس لا تستخدم صراحةً اختبار تيرمان لفحص الأطفال حاليًّا، فإن جزءًا كبيرًا من نظامنا التعليمي ما زال يتمحور حول صقل تلك المجموعة ضيقة النطاق من المهارات المُمثَّلة في اختبار تيرمان الأصلي.

    وإذا أردنا تفسير تصرف الأذكياء بحماقة، فينبغي علينا أولًا فهم كيف وصلنا إلى تعريف الذكاء على هذا النحو، والقدرات التي يعبِّر عنها هذا التعريف، وبعض الجوانب المهمة للتفكير التي يغفل عنها -وهي مهارات على القدر نفسه من أهمية الإبداع والحل العملي للمشكلات، لكنها أُهمِلت تمامًا في نظامنا التعليمي. حينما نفعل ذلك فقط، يمكننا البدء في التفكير مليًّا في أصل مشكلة فخ الذكاء، والطرق التي يمكننا حلها بها.

    سنرى معًا أن الكثير من هذه الجوانب التي يُغفَل عنها كانت واضحة للباحثين المعاصرين عندما شرع تيرمان في اختباراته، وستصبح أكثر وضوحًا في نجاحات وإخفاقات بياتريس وشيلي وجيس وسارا آن والكثير من «أذكياء تيرمان» الآخرين، مع تقدمهم في الحياة بطرق غير متوقعة تمامًا في بعض الأحيان. لكن نظرًا لاستمرارية فكرة معدل الذكاء، لم نبدأ إلا مؤخرًا فقط في إدراك ما يعنيه ذلك وما له من آثار على اتخاذنا للقرارات.

    لا ريب أن قصة حياة تيرمان نفسه توضح كيف يمكن لعقلية عظيمة أن تأتي بنتائج عكسية كارثية، وهو ما يحدث بسبب العجرفة والتحيز -والحبِّ.

    * * *

    كما هي الحال مع الكثير من الأفكار العظيمة (المغلوطة)، نمت براعم فهم تيرمان للذكاء في مرحلة الطفولة.

    نشأ تيرمان في ريف إنديانا في مطلع ثمانينيات القرن التاسع عشر. وفي «المدرسة الحمراء الصغيرة» المكوَّنة من فصل واحد يخلو من الكتب التي التحق بها، جلس ذلك الصبي الأصهب الهادئ ليراقب في هدوء زملاءه من التلاميذ الآخرين. كان من بين أولئك الذين ازدراهم تيرمان طفل أمهق «متخلف» لا يلعب إلا مع أخته، وفتى «بليد» في الثامنة عشرة من عمره كان ما زال يواجه صعوبة في فهم الأبجدية. رافق تيرمان في اللعب طفلًا آخر، وهو طفل «كاذب ذو مخيلة واسعة» سيصير فيما بعد سفاحًا شهيرًا، وفقًا لما زعمه تيرمان، وإن لم يذكر قَط مَن يكون ذلك السفاح(11).

    علم تيرمان أنه مختلف عن الأطفال غير المبالين من حوله، فقد استطاع القراءة قبل أن يدخل تلك المدرسة الخالية من الكتب، وخلال الفصل الدراسي الأول سمح له المعلم بتجاوز ذلك الصف والانتقال إلى تعلم دروس الصف الثالث مباشرةً. ولم يتأكد نبوغه العقلي إلا عندما زار بائع متجول مزرعة أسرته. فعندما وجد ذلك البائع أنه في بيت محب للكتب، قرر أن يحاول إقناعهم بشراء كتاب عن فراسة الدماغ. ولكي يشرح النظريات التي احتوى عليها الكتاب، جلس مع أطفال أسرة تيرمان حول المدفأة وبدأ في فحص فروات رؤوسهم. وأوضح لهم أن شكل العظام تحت فروة الرأس يمكن أن يكشف عن فضائل الشخص ورذائله. وثمة شيء بشأن التكتلات والانبعاجات تحت خصلات شعر لويس الصهباء السميكة أبهره بشكل خاص وجعله يتنبأ لذلك الصبي بأن يحقق «إنجازات عظيمة».

    كتب تيرمان لاحقًا: «أعتقد أن تلك النبوءة قد جعلتني على الأرجح أثق أكثر بنفسي وأسعى وراء هدف أكثر طموحًا مما كنت لأرتضي به»(12).

    وحين قُبِل لتولي منصب مرموق في جامعة ستانفورد عام 1910، كان يعلم منذ زمن طويل أن فراسة الدماغ علم زائف، فما من شيء في تكتلات جمجمته يمكن أن يعبِّر عن قدراته. بيد أن شكًّا قويًّا ظل يراوده بأن الذكاء خاصية فطرية من نوعٍ ما ترسم طريق الإنسان في حياته، وأنه قد توصل إلى مقياس جديد لقياس الفرق بين «البلادة» و«النبوغ».

    افتتن تيرمان باختبار طوَّره ألفريد بينيه، وهو عالم نفس مشهور عاش في باريس في نهاية القرن التاسع عشر. عملًا بمبدأ المساواة بين كل المواطنين الذي قامت عليه الجمهورية الفرنسية، كانت الحكومة قد فرضت التعليم الإلزامي مؤخرًا على كل الأطفال من سن ستة أعوام إلى ثلاثة عشر عامًا. لكن بعض الأطفال لم يتمكنوا من اغتنام تلك الفرصة، ووجدت وزارة التعليم العام نفسها أمام معضلة: هل يجب تعليم أولئك «البُلْه» على نحو منفصل داخل المدرسة أم نقلهم إلى مصحات؟ ومن ثم ابتكر بينيه، بالتعاون مع تيودور سيمون، اختبارًا لمساعدة المعلمين في قياس مدى تقدُّم الطفل وتهيئة تعليمه وفقًا لذلك(13).

    في نظر القارئ المعاصر، قد تبدو بعض الأسئلة التي احتوى عليها اختبار بينيه عبثية. ففي أحد اختبارات المفردات، طلب بينيه من الأطفال فحص رسوم لأوجه بعض السيدات وتحديد أيهن «أجمل» (انظر الصورة أدناه). لكن الكثير من أسئلة الاختبار عكست بالفعل مهارات مهمة من شأنها لعب دور محوري في نجاح الأطفال في حياتهم بعد ذلك. على سبيل المثال، كان بينيه يسرد سلسلة من الأرقام أو الكلمات ويطلب من الطفل تذكرها بالترتيب الصحيح لاختبار ذاكرته قصيرة المدى. وثمة سؤال آخر طلب فيه من الطفل تكوين جملة باستخدام ثلاث كلمات معطاة؛ أي اختبار للبراعة اللغوية.

    15%20copy.jpg

    دليل لمقياس بينيه-سايمون

    لم يتوهم بينيه بأن اختباره يقيس «الذكاء» بشكل كامل. فكان يعتقد أن «جدارتنا العقلية» غير محددة الملامح لدرجةٍ تحول دون قياسها بمقياس واحد، واعترض على فكرة أن الدرجة المنخفضة في الاختبار تحدد فرص الطفل المستقبلية، إذ رأى أن ذلك قابل للتغيير على مدار عمر الفرد(14). وكتب: «يجب أن نحتج على هذا التشاؤم القاسي ونتصدى له، يجب أن نحاول إيضاح أنه لا أساس له من الصحة»(15).

    على الجانب الآخر، أيَّد علماء نفس آخرون مثل تيرمان مفهوم «الذكاء العام»، وهو فكرة وجود نوع من «الطاقة» العقلية التي تغذي العقل، ويمكنها تفسير أداء المرء في كل أنواع حل المشكلات والتعلم الدراسي(16). على سبيل المثال، إذا كنت أسرع في الحساب الذهني، فأنت على الأرجح أقدر أيضًا على القراءة جيدًا وتذكُّر الحقائق. واعتقد تيرمان أن اختبار معدل الذكاء يقيس هذه المقدرة العقلية الطبيعية، التي تحددها سلفًا صفاتنا الموروثة، ومن ثم يمكنه التنبؤ بإنجازك العام في العديد من المهام المختلفة على مدار حياتك(17).

    بناءً على ذلك، شرع تيرمان في مراجعة نسخة إنجليزية من اختبار بينيه، مضيفًا إليه بعض الأسئلة وموسعًا نطاقه ليشمل الأطفال الأكبر سنًّا والبالغين من خلال وضع أسئلة من قبيل:

    «إذا كان سعر قلمين خمسة سنتات، فكم عدد الأقلام التي يمكنك شراؤها بخمسين سنتًا؟».

    و:

    «ما الفرق بين الكسل والخمول؟».

    إلى جانب مراجعة الأسئلة، غيَّر تيرمان كذلك طريقة التعبير عن النتيجة، مُستخدمًا صيغة ما زالت مُستخدَمة حتى يومنا هذا. وبما أن أداء الأطفال الأكبر سنًّا يكون أفضل في الاختبارات من أولئك الأصغر منهم، توصل تيرمان أولًا إلى الدرجة المتوسطة لكل عمر. واستنادًا إلى جداول هذه الدرجات، يمكن تقييم «العمر العقلي» للطفل، والذي عند قسمته على عمره الفعلي ثم الضرب في 100، نحصل على «معدل ذكاء» الطفل. فمَن يبلغ من العمر عشرة أعوام ويفكر كمَن يبلغ خمسة عشر عامًا يكون معدل ذكائه 150، في حين أن مَن يبلغ عشرة أعوام ويفكر كمَن يبلغ تسعة أعوام يكون معدل ذكائه 90. والمتوسط لكل الأعمار هو 100 (***).

    (***) في حالة البالغين، الذين -على الأقل وفقًا لنظرية الذكاء العام- توقف نموهم العقلي، يُحسَب معدل الذكاء على نحو مختلف قليلًا. فمعدلك لا يعكس «عمرك العقلي»، وإنما موضعك على «المنحنى الجرسي» الشهير. على سبيل المثال، يشير معدل الذكاء 145 إلى أنك ضمن نسبة الاثنين بالمائة من الأشخاص الأكثر ذكاءً.

    كان الكثير من دوافع تيرمان دوافع نبيلة، فقد أراد تقديم أساس تجريبي للنظام التعليمي يساعد في إعداد العملية التعليمية لتتناسب مع قدرة الطفل. لكن من بداية العمل بالاختبار، شاب تفكيرَ تيرمان تصورٌ بغيض، إذ تخيل إجراء نوع من الهندسة الاجتماعية بناءً على درجات الاختبار. على سبيل المثال، بعد أن حلل المعلومات المتعلقة بمجموعة صغيرة من «المشردين»، رأى أنه يمكن استخدام اختبار معدل الذكاء لعزل الجانحين عن المجتمع، قبل حتى أن يرتكبوا أي جرم(18). وكتب «لا يمكن للأخلاق أن تزهر وتثمر إذا ظل الذكاء طفوليًّا»(19).

    لحسن الحظ، لم ينفذ تيرمان خططه قَط، ولكن بحثه لفت انتباه الجيش الأمريكي خلال الحرب العالمية الأولى، والذي استخدم اختباراته لتقييم 1.75 مليون جندي. وأرسل بناءً على ذلك أكثر الجنود ذكاءً إلى تدريبات الضباط، في حين استبعد أقلهم ذكاءً من الجيش أو أرسلهم إلى كتائب العمل. ورأى الكثير من الملاحظين أن تلك الاستراتيجية حسَّنت كثيرًا من عملية التجنيد.

    انجرف تيرمان متحمسًا وراء ذلك النجاح، فشرع في المشروع الذي سيشغله طوال ما تبقى من حياته، وهو دراسة استقصائية ضخمة للتلاميذ الأكثر نبوغًا في كاليفورنيا. بدأت الدراسة في عام 1920، حيث أخذ فريقه في البحث عن صفوة التلاميذ في كبرى مدن كاليفورنيا. وشجعوا المعلمين على تقديم أكثر تلاميذهم نبوغًا، ثم أجرى مساعدو تيرمان اختبارات لأولئك التلاميذ لمعرفة معدل ذكائهم، واختاروا فقط الأطفال الذين تجاوز معدلهم 140 (وإن كانوا قد قللوا لاحقًا الحد الأدنى إلى 135). وافتراضًا منهم بأن الذكاء موروث، اختبر فريق تيرمان كذلك إخوة أولئك الأطفال، ما سمح لهم بتكوين مجموعة كبيرة سريعًا تزيد على ألف طفل نابغ إجمالًا، والذين كان من بينهم جيس وشيلي وبياتريس وسارا آن.

    على مدار العقود القليلة التالية، واصل فريق تيرمان متابعة تقدم أولئك الأطفال («أذكياء تيرمان»)، الذين أطلقوا على أنفسهم لقب Termites (النمل الأبيض) نسبةً إلى اسم تيرمان بالإنجليزية Terman تعبيرًا عن حبهم له. وستُحدِّد قصص حياة أولئك الأطفال كيفية حكمنا على العبقرية لنحو قرن من الزمان. من بين أفراد تلك المجموعة الذين بزغ نجمهم عالِم الفيزياء النووية نوريس برادبيري، ودوجلاس ماكجلاشان كيلي الذي عمل طبيبًا نفسيًّا للسجناء في محاكمات نورنبيرج، والكاتبة المسرحية ليليث جيمس. وبحلول عام 1959، كان قد وصل أكثر من ثلاثين فردًا من تلك المجموعة إلى «موسوعة الشخصيات البارزة في أمريكا» (Who’s Who in America)، وأُدرِج نحو ثمانية منهم في دليل «رجال العلم في أمريكا» (American Men of Science)(20).

    لم يحقق كل «أذكياء تيرمان» نجاحًا أكاديميًّا باهرًا، ولكن الكثيرين منهم لمعوا في مسيراتهم المهنية. ومن الأمثلة على ذلك شيلي سميث، «الطفلة الجذابة التي أحبها الجميع». فبعد أن تركت الدراسة في جامعة ستانفورد، بدأت العمل باحثة ومراسلةً لمجلة «لايف»، حيث التقت بالمصور الفوتوغرافي كارل ميدانز وتزوجته(21). وسافرا معًا في أنحاء أوروبا وآسيا حيث أرسلا تقارير صحفية حول التوترات السياسية التي أدت أخيرًا إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية. تذكرت شيلي لاحقًا تلك الأيام التي كانت تركض خلالها في شوارع بلاد غريبة، كما لو كانت في حلم يقظة، بين المشاهد والأصوات التي تمكنت من نقلها في تقاريرها(22).

    في تلك الأثناء، صار جيس أوبنهايمر -«الطفل المتعجرف والمغرور» الذي «افتقر إلى حس الدعابة»- كاتبًا في برنامج فريد أستير الإذاعي(23). وسرعان ما صار يجني مبالغ طائلة من المال حتى إنه لم يكن بمقدوره منع نفسه من الضحك عند ذكر راتبه(24). وابتسم له الحظ عندما التقى بالفنانة الكوميدية لوسيل بال وأنتجا معًا المسلسل التلفزيوني الشهير «أنا أحب لوسي». وفي أثناء كتابة السيناريو، أخذ يحاول تحسين تقنية صنع الأفلام، وقدَّم طلبًا للحصول على براءة اختراع لجهاز التلقين الذي ما زال يستخدمه مذيعو الأخبار حتى يومنا هذا.

    لا شك أن كل هذه النجاحات تدعم فكرة الذكاء العام، فربما لم تفحص اختبارات تيرمان سوى

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1